مراجعة كتاب/ أرجوك لا تفهمني
يمتلك قلم عبدالوهاب مطاوع سحر من نوع خاص، يجلبك إليه كلما ابتعد عنه، فقد كنت قد قرأت له ثلاثة كتب مؤخرًا، هي:
1- صديقي لا تأكل نفسك
2- أزواج وزوجات
3- افتح قلبك
احتوى الكتاب الثاني على قصص إنسانية حقيقية، رسائل كانت تصله من القراء مشتملة على مشاكل بين الأزواج بعضها فريدٌ والبعض الآخر يتكرر في الكثير من البيوت، وقد أعجبني لأن طابعه إنساني، يغوص عميقًا في طبائع الأنفس ويكشف لنا جانبًا من الأسرار التي تختبئ خلف الجدران، أما الكتاب الأول فقد كان تجميعًا لمقالات مفيدة، هو أشبه باستخلاص الحكمة من رحم التجارب والقصص الإنسانية، وفيه عرض لمواقف وأحداث وسرد لقصص وأفلام، مع إضافات وتعليقات لاستخلاص الفائدة والحكمة، أما الثالث فقد كان مزيجًا بين هذا وذاك، فيه مقالات وفيه قصص، يهدف المؤلف من خلاله إلى التخفيف عن القارئ الإنسان ومواساته، ودعوة كي نتراحم ونتعاطف.
ثم قرأت كتاب (أرجوك لا تفهمني) والذي هو من نوع الأول، عبارة عن مقالات متنوعة بأسلوب الكاتب المميز، فقلمه سلسٌ قريبٌ ممتلئ بالحكمة، وهو كتابٌ صغيرٌ صفحاته 150، وهو عندي أفضل من الأول، فالمقالات هنا أكثر إمتاعًا ونضجًا، والتنوع جيد والتكرار قليل، كما يمكن اعتبار أنه فصول من (سيرته الذاتية) لكنها ليست سيرة بالمعنى الحرفي بل مواقف وأحداث مميزة في حياته، قد وضعها في قالب (استخراج العبرة) فإن ذكر الحادثة عقب عليها بالفكرة والدرس، وإن ذكر موقفًا أردفه بالتلميحات والفوائد، وقد تميزت مقالات عن أخرى، ومن عادتي أن أذكر المميز وأعلق عليه، وهذا ما تتضمنه الفقرات التالية:
(صفحة 21) فعلتها:
من ذكريات المؤلف ومغامرات شبابه، حين قرر أن يسافر إلى ألمانيا ليشتري سيارة ويعود بها سائقًا وهو غير متمرس بالقيادة، ثم يفضي إلى موضوع إقدام الشباب واندفاعه، وعن صديقه الذي غامر وسافر وبنى وكاثر، فلما سأله (هل يمكن أن تقدم على تلك المغامرة اليوم) فأجاب بأن (كلا) ثم يختم مقالته بعبارة (فافعلها أنت يا صديقي وأقدم على ما قد تستهوله وتتصور نفسك أعجز من أن تحققه).
.
(35) إلهام زعلانه:
من المقالات اللطيفة الطريفة، يحكي فيها عن الـ(إلهام) بطريقة ساخرة تهكمية، فالكاتب يحتاج إلى الــ(إلهام) كي يبدع، والسيدة إلهام تأتي أوقات وتغيب أوقات، لكنها دائمة الزيارة لكُتّاب آخرين وعظماء مبدعين، وبين عناء المؤلف مع (إلهام) واستحضاره لبعض النماذج الأخرى، يجول بنا ويصول عبر مركب القلم في بحر الكَلِم.
(43) الجدران العالية:
تحدث عن صديقه الذي لا يكف عن التحدث عن مشاكله وهمومه وعن نفسه وطموحاته، لكنه لا يطيق الاستماع لصديقه حين يشكو إليه أو (يفضفض) له، يريد أن يُسمع ولا يحب أن يَسمع، ذكر لنا أحد المواقف المحرجة التي حدثت له معه، (الجدران العالية) هي تلك الجدران التي نقيمها بيننا وبين الآخرين، بدلاً من أن نقيم جسور التواصل والمحبة، نتعرف على مطاوع الإنسان في هذه المقالة، مطاوع الحزين المتألم للجروح التي يسببها الآخرين بقصد وبدون قصد.
(50) سنة حلوة يا جميل:
هي أكثر مقالة طريفة، ورغم طرافتها وغرابتها إلا أنها قد حدث بالفعل، أخبرنا بـ(شلة الأنس) أيام شبابه، حين كانوا يجتمعون كل أسبوع ويتبادلون الأشعار والغناء والفن، عن صديقهم الذي كان يرغمهم على الاستماع لأشعاره الطويلة، وعن ليلتهم العجيبة في رأس السنة وأحداثها الغريبة.
(59) والشوق مركبي:
أود التنبيه على نقطة ورد ذكرها في هذه المقالة: فقد قال -مما قال- أنه انتهى من قراءة القرآن الكريم قراءة متأنية فاحصة، وقد استمرت 3 سنوات كاملة، كما أنه قرأ التوراة والإنجيل فاحصًا ممحصا، وهذا ما يجب على كل باحث عن الحقيقة فعله.
(65) ثم انتصار:
عن النجاح بعد الكفاح، عن خيبات الأمل المتكررة ثم النصر، يبدأها بلمحات من قصة حياة نجيب محفوظ وكيف كانت بدايته، ويتحدث عن تشارلي شابلن وبدايته وخروجه من البؤس إلى الشهرة والنجومية، وشخصيات أخرى منهم شوبنهاور، تحدث عنه وعن حياته واعتداده بنفسه (غروره) وبعض مقولاته.
.
(72) مونتاج يا دنيا:
ذهب الكاتب يومًا لمقابلة رجل يعمل (مونتير) وهو الذي يقص ويدمج المشاهد واللقطات ويصنع الأفلام والحكايات لتشاهَد في دور السينما وفي شاشات التلفاز، هو الرجل الذي يأخذ ما يريد ويرمي ما يريد ليصنع القصة التي يريدها، ثم ربط هذا بالحياة ربطًا بديعًا، فالحياة كذلك هي مشاهد ولقطات، لكنا لا نقدر على قص ما لا نريد، الحياة شريط طويل تختلط فيه الضحكات بالدموع، الفرح مع الحزن، لكن في النهاية نحن نصنع الفلم الذي سنشاهده يومًا ما في عالم آخر، وقد حركت تلك الشرائط الملقاه بذور الإبداع في عقله لكتابة قصة أخبرنا بمعالمها الرئيسية، وبرأيي هي قصة رائعة فكرتها جميلة.
لقد تذكرت، وأنا أقرأ المقالة، الفلم الواقعي الرائع (life in a day)
فكأن هذا الفلم هو رغبة المؤلف قد تحققت على أرض الواقع، فهي عبارة عن لقطات من حيوات أناس من مختلف الأماكن والخلفيات، مشاهد متنوعه دمج بينها المخرج بشكل بديع ليصنع لوحة تعكس حياة الإنسان أو جانبًا منه.
.
(78) فات الأوان... لا لم يفت
هذه المقالة بالتحديد أعطتني الإلهام والتحفيز للسير في الطريق الذي قررت السير فيه، فأنا قد تنبهت وأنا في منتصف عمري لطريق مهم ندمت أني لم أسلكه، أريد الآن أن يكون مشروعي الأكبر في الحياة، أحيانًا أتساءل وأقول: هل يكفي ما بقي من وقت..؟؟ وفي هذه المقالة يدافع الكتاب عن هذه القضية ويقول (لم يفت الأوان).
.
(95) شمعدنا كل إنسان
سرد لنا ملخصًا لقصة قصيرة من تأليف أنطون تشيكوف، قصة يمكن تسميتها بـ (داير ما دار) أو (الشتيمة تلِفّ وترجع لصاحبها) قصة الأرملة التي أهدت إلى الطبيب تحفة ثمينة لكنها على شكل صورة فاضحة، فلا يدري ما يفعل بها فيهديها لآخر ثم لآخر ثم ...الخ ، وقد أعجبتني القصة، وأعجبني تعليق الكاتب واستخلاصه الأفكار الدفينة والمعاني الخفية.
(101) عفوًا.. لقد نسيت
مقالة عن الذاكرة والنسيان، وقد كان المؤلف يعاني من مشكلة النسيان، ثم تعود على ممارسة (تمارين الذاكرة)، ووصفها هنا وسابقا في كتاب (افتح قلبك) هذه المقالة فيها تفصيل وتوضيح أكثر من الأخرى، وقد بدأها بأمثلة من حيوات العظماء وذواكرهم الخارقة أو الضعيفة، وذكر لنا تمارين التذكر التي أصبح مدمنًا عليها، وأكد أنها آتت أكلها وأعطت نتائجها، ثم ختم المقالة بموقف طريف حدث له بسبب ذاكرة صديقه الضعيفة.
.
(110) قصيرة.. لكن حافلة
عن حيوات العظماء، القصيرة منها والطويلة، بعضهم عاش حياة قصيرة لكنها حافلة بالإنجازات، وبعضهم طرق المجد بابه لكن في آخر أيامه، لقد اختصر لنا خلاصة حيواتهم بقلمه وأسلوبه، أما الشخصيات التي تحدّث عنها فهي: الرسام موديلياني - الموسيقار شوبرت - الاسكندر الأكبر - أبو تمام - الموسيقار شوبان - فان جوخ - الكاتب جوجول - نابليون، وما أبلغ عبارة كتبها عن أولئك العباقرة أصحاب الأعمار القصيرة، فقد قال أنهم من (أكل فكرهم أجسامهم).
.
(122) حياة صاخبة
يحكي لنا قصة حياة شخص عجيب عاش حياة عجيبة، إنه الفنان والمخرج ورجل الأعمال و...الخ، إنه (أحمد سمير)، والحقيقة أني هرعت إلى العم قوقل وحاولت أن أقرأ أكثر عن هذه الشخصية لكني لم أجد ما وجدته في هذه المقالة، والكاتب كان قد قرأ الكثير عنه ثم تعرف على شخص مقرب من أحمد سمير فحكى له أكثر، لذلك فالأرجح أن مصادره موثوقه، لقد ذكر المواقف العجيبة التي خاضها هذا الرجل، عن المغامرة والتهور والتكبر، وعن حكاية العملية التي أجراها لمريض من باب الدعابة والتحدي، فأدى ذلك إلى موت المريض وخروج المتهم من السجن، وغيرها من المواقف التي تستفز القارئ.
.
(136) مجرد سوء تفاهم
يسرد قصة عجيبة لتكتشف في النهاية أنها مسرحية تحمل عنوان (سوء تفاهم) للكاتب الفرنسي (ألبير كامي) أو (ألبير كامو)، وحبكة القصة رائعة، تستوقفك للتفكير الطويل، وقد علق عليها وجعلها مدخلًا لكلامه عن السعادة والشقاء، اقتبس مقولة للمفكر (مونتسكيو): الأشقياء نوعان: الأول هم المصابون بـ (فشل الروح) والنوع الثاني هم المصابون بعذاب الرغبة في كل شيء، أمّا السعداء فهم نوعان أيضًا: الأول يرغب في أشياء بسيطة يقدر على الوصول إليها، والثاني نفسه منضبطة على التوافق مع الظروف المحيطة و (يرضى) دائمًا بكل ما تحمله له الحياة، ثم ينطلق المؤلف لشرح وتوضيح هذا المفهوم، وفي نظري أن كلامه هنا عن السعادة والشقاء هو من المفيد والعميق.
.
وكما يبدو أنني قد اخترت معظم المقالات، فإن كان ولابد أن أختار أفضل الأفضل، فستكون هذه المقالات:
- إلهام زعلانه
- سنة حلوة يا جميل
- مونتاج يا دنيا
- عفوًا.. لقد نسيت
- مجرد سوء تفاهم
.
هذا كان كتاب (أرجوك لا تفهمني) وهذا كان قلم عبدالوهاب مطاوع، الذي (طاوعه) القلم فكتب العديد من الكتب التي عاش بها بعد موته، رحمه الله ورفع قدره.

تعليقات
إرسال تعليق