مراجعة كتاب/ قصص من الحياة - علي الطنطاوي

قرأت كاتبًا سابًقا للشيخ علي الطنطاوي وقد أعجبت بموهبته في كتابة المقالات، كانت لغته سلسة عذبة، ولم يكن يتعمد التصعيب رغم قدرته، وقد عرفت ذلك من مقالة أو اثنتين كتبها من باب التندر، فظهرت فيها الكلمات الفصحى القديمة والعبارات التراثية الأصيلة، فصعبت علي القراءة وتعسرت، ثم خرجت منها وقد تعبت من عثراتي المتكررة، فإذا بي أعود إلى سهولة المقال وعذوبة الأسلوب، وقد كانت تلك تجربتي في كتاب (صور وخواطر).

ثم قرأت هذا الكتاب (قصص من الحياة) فاكتشفت فيه علي الطنطاوي (القاص) صاحب الخيال الخصب والأسلوب الأدبي الرصين، لقد احتوى الكتاب على العديد من القصص القصيرة والتي نشرها في سنوات متقاربة في مجلة الرسالة ومجلات أخرى، وقد سمّى الكتاب (قصص من الحياة) أي أن أمثال هذه القصص يتكرر في الحياة، لكنه أضاف بعض اللمسات الفنية وجمّلها ببعض الأحداث العرَضية، فخرجت القصص مشوقة ومعبرة في نفس الوقت، أي أن أغلب القصص هي مما ينطوي على عبرة جلية أو موعظة خفية.

معظم القصص تنتهي بنهايات غير سعيدة، وبعضها مؤلم، وأعتقد أن هذا مقصود من قبل المؤلف من أجل أن يوصل فكرة أو يسلط الضوء على مشكلة، وهنالك بعض القصص الرومانسية التي انطوت على عبارات غزلية، وأغلب تلك القصص يكون القصد منها رسالة يريد الكاتب أن يوصلها، أو أنه أخرج عبرها ما في قلبه من مشاعر ثم غلفها بغلاف الفائدة والعبرة، وهنا نتعرف على الشيخ علي الطنطاوي صاحب المشاعر الرقيقة والقلب الذي عرف العشق واهتدى إلى طريق التعبير عنه بأفضل العبارات والتشبيهات.

ومن الجدير بالذكر أن الشيخ قد تردد في نشر هذا الكتاب بسبب ما فيه من قصص أو فقرات غزلية، لأن بعضها كان قد كتبها في فترة شبابه، وقد صرح أنه عدّل في بعض القصص، والبعض الآخر قرر عدم نشره، ثم نصح الشباب أن يتجنب قراءة قصص معينة بسبب ما قد تسببه من تأجج للمشاعر، لكن الغالب على تلك القصص هو العبرة والعظة، وقيمة (العفاف) هي من أبرز القيم التي كرس لها الكتاب قلمه في هذه القصص.

ومن الموضوعات التي تكررت في العديد من القصص؛ التأثر بالغرب، وكما يبدو أن مدينة دمشق آنذاك كانت قد أخذت نصيبها من التمدن الغربي بسبب الاحتلال، وقد انتقد الكاتب -عبر قصصه- التمدن المشهوة الذي أدى إلى الإنحلال الأخلاقي والبعد عن الدين والتعاليم الأخلاقية، وقد نالني العجب حين علمت أن المدارس الأجنبية كانت قد أنشئت في تلك الفترة، وكان الدخول إليها مفخرة اجتماعية ومفسدة دينية في ذات الوقت.

إن الكتاب الجيد هو من تعلق بعض أفكاره في عقلك ثم ترن فيه أيامًا وأسابيع، وقد تثمر بعد زمن حين ترتوي من تجارب الحياة، كذلك القصص الجيدة هي التي تعلق في ذهنك بعض مشاهدها، وتتأثر ببعض أحداثها، وهذا حاصل في قصص هذا الكتاب أو في بعضها، وسأذكر هنا ما علق في ذهني واستحق الإشارة مني.

أفضل ما أعجبني

(اليتيمتان) هي قصة مؤلمة تعكس مشكلة اجتماعية، صوّرها الكاتب بطريقة بارعة لتجذب التعاطف وتغير المواقف، إنها حكاية تتكرر في بيوت كثيرة حين يقرر الأب أن يتزوج من امرأة لا تخاف الله في عياله، فيذوق الأبناء مرارة العذاب بجانب مرارة فقد الأم، ورغم أنه من الموضوعات المستهلكة، إلا أن براعة الكاتب قد جعلته جديدًا، وأسلوبه قد أخرج لنا قصة مؤثرة.

قصة (الكأس الأولى) هي من القصص البارعة أيضًا، يغوص الكاتب فيها إلى أعماق النفس الإنسانية، ويكشف عن الدوافع ويعري الوساوس، وكيف يمكن أن ينجر الإنسان إلى طريق الرذيلة عبر خطوة أولى أو تجربة بسيطة، ثم يصبح الأمر عادي، والقصة لو أنها كتبت بطريقة غير أدبية لكانت عادية ليس فيها ما يعجب، لكن براعة الأسلوب وجمال التصوير.

تعد قصة (العجوزان) توثيقًا للتراث والعادات الاجتماعية، وفيه وصف لبيوت الشام الأصلية، فهي مجرد سرد يحكي لنا أسلوب حياة عائلة تقليدية، على ما فيها من غلظة وجفاء من قبل رب البيت (والذي يخالف سنة النبي محمد) إلا أن المؤلف أحب أن يوثق هذا الأسلوب الحياتي الذي يراه يندثر ويحل محله الأسلوب الغربي الذي يمقته.

أعجبتني قصة (في جبال الشام) وقد صور الكاتب في لوحة مفعمة بالحركة والنشاط، حياة الناس في السابق وكيف تغيرت في ظرف 20 سنة بسبب حركة التغريب والاستعمار، والقصة تدور حول شيخ صوفي ومريديه، يتجولون في جبال الشام باحثين عن تكية أو زاوية يتعبدون فيها.

قصة (في حديقة الأزبكية) هي أكثر ما يثير الضحك، وهي بديعة في سردها وجميلة في تشبيهاتها ولغتها، وهي قصة ساخرة تطرق أحد المواضيع الاجتماعية والنفسية.

أما قصة (في جبل النار) فهي قصة نارية حماسية، موضوعها الجهاد ضد المعتدين في فلسطين، وقد رسمت صورًا يصعب أن تمسح، وخطت عبارات جعلت ترن في عقلي أيام تلو أيام.

وقد خرج عن عادته في قصتين، هما (هذيان مجنون) و (على ثلوج حزرين) فقد قلد فيهما الأدب الغربي، وقص علينا قصصًا ليست من الحياة، لكنها قصص خيالية ممتعة وفيها من الأدب الكثير، فقصة (هذيان مجنون) هي قصة تسبح في الخيال، مليئة بالرمزية، تطير في عالم من الشاعرية، لذلك أنطقها المؤلف على لسان مجنون كي يخرج من اللوم والعتاب، أما قصة (على ثلوج حزرين) فهي رواية عالمية مشهورة أعاد كتابتها، فكأنها دارت في جبل من جبال لبنان.

أما القصة الأكثر تميزًا، والأقوى لهجة، والأعظم تأثيرًا، فإنها قصة (شيخ في مرقص) فقد سمعتها قديما من صديق كان قد قرأها وشغف بها، ولم أكن أعرف حينها أنها من تأليف الشيخ علي الطنطاوي، ثم قرأتها في هذا الكتاب فنالت إعجابي، وهي قصة من جزئين، تحكي قصة شيخ قرر أن يدخل مرقصًا ويلقي بموعظته فيه، وقد وجدت القصة في كتب ومواقع بعد أن اختصرت وضاع الكثير من جمالها، فهي لا تقرأ إلا كاملة، ولا توجد كاملة إلا في هذا الكتاب. 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مراجعة كتاب/ أنا قادم أيها الضوء

مراجعة كتاب/ حياة الذاكرين - عمرو خالد