مراجعة كتاب: رحلتي الفكرية - للدكتور عبدالوهاب المسيري
كما قال الشيخ علي القرني (أقصد البحر وخلّ القنوات)، وكما كُتِب في غلاف أحد الكتب (التهم هذا الضفدع) والذي يدعو إلى البدء بالأهم الأصعب، فإني قد توكلت على الله وخضت غمار هذا الكتاب الكبير، والذي يحتل أكثر من 700 صفحة، ويحمل فيه طياته الكثير من الأفكار التي يصعب بلعها بسهولة، وقد كان الكتاب خير رفيقٍ لي في الأسابيع الماضية، أستمع إليه عبر تطبيق (إقرأ لي) وأنا أمارس نشاط المشي المحبب إلى قلبي، فكانت صحبة لا تُملّ، وفائدة لا تقدر بثمن.
كتاب (رحلتي الفكرية) هي سيرة ذاتية وغير ذاتية، لأحد المفكرين من ذوي الوزن الثقيل، غادر عالمنا بعد أن خلّف وراءه علمٌ ينتفع به، لقد نشر عدة كتب من أهمها موسوعة عصَرَ فيها ثلاثين سنة من سني عمره، إنها (موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية) وهو المفكر الدكتور الراحل (عبدالوهاب المسيري).
في هذه السيرة الغير ذاتية كما يصفها، يحاول المؤلف التركيز على الأفكار بدل الأحداث، ثم يذكر الكثير من الأحداث التي عاشها في ثنايا تلك الموضوعات، إنها سيرة شخص جاد استغل عمره أفضل استغلال، وتعامل مع حياته بشكل منهجي، وتمكن من استخلاص العبرة من بين الأحداث والفكرة من وسط ركام الأيام.
المسيري نشأ في بيئة محافظة، ثم درس في كلية منفتحة، ثم سافر إلى دولة علمانية (أمريكا)، وقد اشتغل في الحقل الفكري معظم حياته، ودرّس في جامعات في مصر والسعودية والكويت، وفي هذه الأثناء كان له اهتمامٌ بالصهيونية، فكتب دراسات وبعض الكتب، وبسبب قلة المصادر العربية في هذا الحقل، فقد قرر كتابة موسوعة، فكتبها في البداية ونشرها سنة 1975، ثم لم يقنعه ذلك، فبدأ بعدها رحلة طويلة، وتحول الكتاب إلى مشروع متكامل يشارك فيه باحثون ومساعدون، فتفرغ بعد ذلك لهذا المشروع الضخم، وعمل فيه سنوات تلو سنوات، حتى اكتمل هذا العمل وتم نشره، وبعدها قرر أن يكتب الكتاب الذي بين أيدينا.
لقد قدم هذا الكتاب نظرة شاملة لمسيرة المسيري وملخصًا لأفكاره التي تبنّاها أو طوّرها في حياته، والكتاب رغم حجمه الكبير وإسهابه في بعض المواضع، إلا أنه ممتع ومفيد، تخرج منه بالعديد من الأفكار بل بمبادئ تستفيد منها في حياتك، وبجانب ذلك هو يدلك على طريقة (التفكير) وبناء النماذج، والنموذج التفسيري (كما يصفه) هو الذي يمكنك تركيبة على الكثير من الظواهر لتعرف عمق كل ظاهرة والنواة التي تنشأ منه.
وقد كان رجل مبادئ صالحه، وكانت له أفكار نافعة، إنه رجل من رجالات النهضة الفكرية التي لم تستغل بعد.
كم يؤسفني حال البحث العلمي في العالم العربي، وحال الباحثين عندما أقارنهم بالمسيري، أولئك الذين يسعون بعد الـ(د) أو الدولار، أو ممن لا تسفر جهودهم البحثية عن أية فائدة حضارية أو تحسنٌ حياتي، لو أن لدينا 100 باحث من أمثال المسيري، لتغير حالنا تغيرًا جذريًا.
وقد عرفت من الكتاب أن المسيري قد كتب قصصًا للأطفال، واخترع شخصية من عمق الحضارة العربية (الجمل) بدل شخصية (الدب) التي تنتمي للحضارة الغربية، وقد أراد المسيري أن يكون ناقدًا أدبيًا، ونشر عدة دراسات وأبحاث، لكن مشروعه الأكبر (الموسوعة) طغى على كل المشاريع.
وقد نقد المسيري الحضارة الغربية وكشف مواضع الخلل فيها، وعبر نماذجة التفسيرية الشاملة حلل لنا الكثير من الظواهر الغربية، منها النازية وما نتج عنها من محارق وإبدات، ثم الصهيونية والإباحية والمادية والحداثة وما بعد الحداثة وغيرها.
وخيرٌ لمن يريد قراءة المسيري أن يبدأ بهذا الكتاب، لأن فيه عرضًا موجزًا لأفكاره، مع التسلسل التاريخي الذي يوضح كيف نشأت تلك الأفكار وتطورت، والقراءة في هذا الكتاب ممتعة لأن المؤلف يلقح الأفكار المجرده بالقصص والمواقف التي تشرح وتوضح، وفي نفس الوقت تخفف وتلطف، كما أن الكتاب يفيد القارئ بأن يعرف كيف يفكر المسيري، وما هي منطلقاته وأين هي اتجاهاته.
لقد عشت مع المسيري بقلمه أيامًا جميلة، وحزنت على فراقه حين وصلت الصفحات الأخيرة، أحسست أني أودعه في تلك اللحظة وأنه يغمض عينيه وينتقل إلى الدار الآخرة مع آخر سطر في الكتاب، فرحمة الله عليك يا أبا المفكرين، ونفعنا الله بتراثك الفكري الذي خلفته وراءك.
تعليقات
إرسال تعليق