مراجعة كتاب/ حياة الذاكرين - عمرو خالد

هذه مراجعة لكتاب ليس الهدف منه إثراء المعرفة الفكرية، أو إمتاع الذائقة الأدبية، وليست الفائدة متوارية مختبئة، بل هي مباشرة واضحة، والكتاب عمليٌ يعطيك الخلاصة والزبدة، فالنفع منه لا يكون بمجرد القراءة بل بالتجربة والتطبيق.

قرأت الكتاب لأعرف المزيد عن موضوعٍ ذُقت حلاوة تطبيقه، وتغيرت حياتي بتنفيذه، ذلك هو ذكرُ الله، ذكرُ القلب مع اللسان، الذكر بوصفه نشاطًا أساسيًا في نهار المرء وليله، بوصفه خلوة مع الله تبدأ بها يومك أو تختم بها نهارك، الذكر بوصفه علاجًا يشفي الجروح ويداوي القروح، أكسير يغير طعم الحياة في فمك، كالملح حين يوضع في الطعام، كعدسة تعيد الألوان لمن فقدها في بصره، فيضعها ليرى العالم بألوانه المتنوعه، وجماله الأخّاذ، إنه ذكر الله، الحل الذي يزهد فيه أكثر الناس، العلاج الذي يستخدمه الكثير بطريقة لا تؤدي مفعلوه الخارق.

إنّ من يكتشف حقيقة الذكر، ويخوض التجربة بكل متطلباتها، فلا يسعه أن يصمت، فهو يرى من حوله غارقون في بحار التعب، وليس تعب الأجساد فذلك ليس بشيء، بل تعب النفس التي تئن من وطأة الحياة المادية، فغياب الإيمان من حياة الفرد له آثاره المدمرة وإن تأخر ظهورها، وذكرُ الله يجدد الإيمان بنص كلام رسول الله، وبإثبات المجربين ممن يعيشون معنا وما هم معنا.

يؤكد الكاتب أنه كان يعرف الذكر، وكان يدعو إليه في مواعظه وبرامجه، لكن اكتشافه الجديد مختلف عن السابق، فقد كان السابق هو (ذكر اللسان) وشتان بين ذكر اللسان وذكر القلب، شتان بين ذكر الله كإجراء ثانوي نملأ بها فارغات أوقاتنا، ثم نتركه حين ننشغل بشيء حتى لو كان العمل الصالح، وبين الذكر الذي هو قيمةٌ عليا وعادةٌ ثابتة لا يمكن الاستغناء عنها، حين يمكن التضحية بأي شيء إلا الورد اليومي من ذكر الله، وحين نعطي الذكر حقه من التركيز والتفكير والتدبر، هذا هو الاكشاف الذي إن وقعت عليه تغيرت حياتك.

يبدأ الكتاب بتعريف الذكر الحقيقي الذي لا يكون باللسان فقط، ويذكر في ثنايا ذلك تجربته معه وكيف غير الذكر حياته، ويحاول تفسير سر تأثيره العجيب، يتحدث عن أثر الذكر في تصفيه الذهن ومعالجة التشتت، وعن أثره على الإبداع وعن الصحة النفسية وغيرها.

يتعلق الفصل الثالث بآيات الذكر الحكيم وكلام الرسول الأمين حول ذكر الله، مع تعليقات وتلميحات جميلة، أما الفصل الرابع فيتناول  بعض التجارب الواقعية لأشخاص من محيط الكاتب ومعارفه، يحكون تجاربهم وأثر الذكر على حياتهم، كانت الحكاية الأولى هي الأكثر إلهامًا، وهي قصة أحمد البالغ من العمر 40 عامًا، أحس برغبة في أن (يعيد ضبط المصنع) لنفسه، فبدأ بالاستغفار ففتح الله عليه به فتحًا مبينًا، ولم يكن استغفاره استغفار الغافلين، والذي يحتاج -في حقيقة الأمر- إلى  استغفار، بل كان استغفار توبة وندم، كان وردًا يوميًا لازمًا، ولهذا فقد آتي أكله وأعطى ثماره، ولقد أثّر الاستغفار عليه بخفةٍ وجدها في نفسه، وولادةٍ ثانية أخرجته من رحم الحياة المادية إلى فضاء الروحانية، فانتقل من الاستغفار إلى الحمد، ومنه إلى بقية أنواع الذكر المبهجة، ثم حكى لنا كيف تغيرت حياته وكيف تحققت آماله، فكأنه حاز بالذكر سعادة القلب وهناء العيش بضربة واحدة.

توالت القصص والتجارب في هذا الفصل، فقد بلغ عددها 20 ما بين كحايات قصيرة عادية وتجارب فريدة مميزة، ثم كان الفصل الخامس عن فوائد الذكر وأثره في العبادات والحياة والإبداع، ثم السادس الذي خصصه للأذكار المختلفة، فتحدث عن كل ذكر بشيء من التفصيل، عن معناه وكيفية شغل العقل أثناء ترديده، فتحدث عن (لا إله إلا الله) و (أستغفر الله) و (سبحان الله) وبقية الأذكار المعروفة.

ثم يأتي الفصل الثامن الذي هو الجانب العملي، فقد أورد خطة عملية لذكر الله عبر ثلاثة خيارات، واحدٌ يستغرق ربع ساعة، والثاني ثلثها والثالث نصفها، مع بعض الشروط والتنبيهات ليجني الذاكر الثمرة المرجوة.

وهنا ينتهي الكتاب، لكن لي ملاحظات أنطلق فيها من قول المؤلف في الصفحة الخامسة والعشرين (وهكذا، فالطريق إلى الله محصور بين الذكر والفكر) في حين أن الطريق إلى الله -بنص القرآن- هو الإيمان والعمل الصالح، والذكر يعمل على زيادة الإيمان، فيبقى إذن العمل الصالح، وكلاهما يدعم الآخر، ومع ذلك فالإيمان يسهل على الإنسان أن يعمل العمل الصالح، ويجب أن يكون الشخص حريصًا على أن يسير بجناحين هما الإيمان والعمل الصالح.

الأمر الآخر أن الذكر لا ينحصر في الأوراد اليومية، فالقرآن هو ذكر، وحين نقرأ القرآن نحن نذكر الله، بل أن القرآن هو دليلنا لمعرفة الله جل في علاه، وكلما عرفناه أكثر كان تعظيمنا له أكبر أثناء الذكر وخاصة حين نقول (سبحان الله) و (لا إله إلا الله) إذًا فتدبر القرآن أمر لا يجب أن ينفصل عن (وِرد الذكر) فكلاهما يدعم الآخر، تدبر القرآن يزيد معرفتنا بالله وتعظيمنا له، فيكون الذكر مثمرًا، وذكر الله يحبب إلينا القرآن ويحفزنا لتلاوته.

هذه بعض الاقتباسات التي أعجبتني:

وأدهشني أنِّي وجدتُ المتدربين في أحد مراكز التأمُّل في لندن يقوم تأملهم على الاسترخاء ثم التركيز لمدة عشرين دقيقة على كلمة إيجابية معينة، كالأمل أو السعادة أو السلام النفسي، ويظلون يرددونها بتركيز عميق.

أنت تحتاج على الأقل إلى مدة تتراوح بين 15 و20 دقيقة لتنتقل إلى مرحلة ملء الروح، وهذه هي حالة التألق والتجلِّي التي يشعر بها الذاكرون.

 أنت إذا ذكرت الله كان معك، وكنت في معيته! أما يكفيك قوله: «وأنا معه إذا ذكرني»؟ أتريد شيئًا آخر من الدنيا إذا كان الله معك؟

 الذِّكْرُ مع الفكر ـ التفكُّر والتأمُّل ـ يجلي قلبك، ويجعله كالمرآة وإذا صار القلب كالمرآة انعكست عليه أنوار محبة الله، وانعكاس أنوار المحبة يُحدث لذَّة عجيبة ليس لها مقابلٌ في اللغات، بحيث يصعب أن نشبِّهها أو أن نتكلَّم عنها، ولا يعرفها الا من جربها. 

(على لسان مجرب) في المرة الأولى كُنتُ أستغفر بنيَّة تحسين علاقتي مع الله، بنيَّة أن أتطهَّر وأغتسل أمامه من ذنوبي ليقبلني، لكن في المرة الثانية فعلتُها مدفوعًا بالطمع في أشياء دنيوية، وبرغبة في تكرار ما حدث معي من قبل، فلم أصل إلى شيء! 

(على لسان مجرب) كل ذلك كان يواكب مداومتي على الذِّكْرِ، فإذا انقطعتُ عن الذِّكْرِ لسببٍ أو لآخر أجدني أفقد ما وجدته من لذَّة في العبادات والتعاملات، فأعود إليه سريعًا، فتعاودني الطمأنينة والسكينة، وأحمد الله على ما أنا فيه من نعمة. 

 يقول النبي ﷺ: «جددوا إيمانكم، فإن الإيمان يبلى كما يبلى الثوب. قالوا: كيف نجدده يا رسول الله؟! فقال النبي ﷺ: أكثروا من قول: لا إله إلَّا الله».

 فالذِّكْر ـ كما قلنا سابقًا ـ في العمق هو حالة تأمُّل عميقة، وكثيرٌ من عظماء العالم كان يأتيهم الإلهام في حالات أقرب للتأمُّل، آينشتاين مثلًا كان يقول إن كثيرًا من نظرياته جاءته بينما يتمشَّى في الغابات وبين الأشجار وهو يفكر، وانت عندما تذكر ستجد إلهامات عجيبة ترد عليك. 

الاستغفار أشبه بعملية مراجعة وجرد شامل (scane) لمواقع الخطأ في حياتك. كأنَّك تفتش مع كل استغفار وتقول: أين الخلل؟ فهو مراجعة مستمرَّة لأخطاء حياتك، عملية تقويم مستمر لتصحيح المسار. وبالتالي فالاستغفار ليس معنًى روحانيًّا دينيًّا فقط، بل هو معنى ضروري لتصحيح مسار الإنسان. 

 إنها مُظاهرة تسبيح كونية تشارك فيها جميع مخلوقات الله، تجعل الكون يبدو كأنه مسجد كبير عابد خاشع لله، والإنسان عندما يحافظ على التسبيح فهو في الحقيقة إنما يتناغم مع الكون في سيمفونية تواصُل رائع تُشعر الإنسان بالطمأنينة والسكينة. 

 الكونُ قائمٌ بأسماء الله الحسنى، كل ذرة في الكون ما هي إلَّا انعكاسٌ وتجلٍّ لاسم من الأسماء الحسنى، ولا توجد ذرة واحدة إلَّا وهي تحمل ختم أحد أسماء الله الحسنى، وكأنَّ الكونَ كله مكتوب عليه لافتة عريضة عنوانها: صُنع الله! 

هناك معنى عميق يقول: إن الاسم الأعظم هو ما وافق احتياجات الإنسان في الحياة؛ لأن إحساسك به سيكون عظيمًا، وعندها ستردده بكل مشاعرك ومن كل قلبك؛ فالاسم الأعظم قد يكون أي اسم من أسماء الله الحسنى إذا نطقته بإحساس عميق. 





تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مراجعة كتاب/ قصص من الحياة - علي الطنطاوي

مراجعة كتاب/ أنا قادم أيها الضوء