مراجعة كتاب/ مختارات من القصص الانجليزية

 سأبدأ من آخر قصة في هذا الكتاب، والتي هي الأطول، فقد شدتني واستحوذت على إعجابي، إنها قصة (آلة الزمن) فكم وكم سمعنا ورأينا من قصص وحكايات استمدت من هذا الخيال الخصب، الخيال الذي دفع الكتاب والآدباء أن يتخيلوا -حالمين- إمكانية اختراق الزمن والعودة للوراء أو التقدم للمستقبل، لقد استمعت لهذه القصة وأنا أبحث في دهاليز ذاكرتي عما يمكن أن يسعفني من أفلام وحكايت عن (آلات زمن) طافت بي سابقًا، ولكن وقبل أن أهتدي لشيء، كانت القصة قد أخذت بتلابيب تركيزي، وبدأتُ بالاندماج فيها رويدًا رويدًا، ثم غصت في أعماق أحداثها، وانجذبت إلى أسلوب كاتبها، فكانت عندي -وبلا منازع- أفضل قصة في الكتاب.

معذرة، فلقد دخلت دون مقدمة أو توضيح، لكني تركت العنان لأصابعي أن تترجم ما أرسلته قريحتي فبدأت من الآخر، ولعلك قد خمنت أن الكتاب هو مجموعة قصصية، نعم صحيح، لكنها مجموعة مختارة من القصص الانجليزية التي كُتبت في نهاية القرن التاسع عشر أو بداية القرن العشرين، وقد اختارها وترجمها الأديب (ابراهيم عبدالقادر المازن)، والكتاب قديمٌ نسبيًا.

يحتوي الكتاب على عدد من القصص المترجمة ترجمة أدبية رصينة، من الوارد جدًا أن تجد بعض الكلمات العربية الجديدة عليك، كلمات لم تعد مما يُستخدم في حياة الناس اليوم، يمكن أن تبحث عن ترجمتها في المعاجم أو أن تسترسل دون الفحص والتدقيق، ولن تعيقك تلك الكلمات من الاستمتاع بالقصص، لأن فيها حشوًا كثيرًا وتفاصيل عديدة، وقد أدّى بي التأمل إلى فائدة رصينة.

فكرت أنه بإمكاني أن أختصر كل قصة في جملة أو جملتين، طبعًا لا ينطبق الأمر على جميع القصص لكن على أغلبها، لكني تنبهت إلى نقطة مهمة، حيث لا يعتمد الأمر على الحبكة فقط، فالتفاصيل المبالغ فيها في هذه القصص لها دورها، ومن أهم الأدوار هي أن تدخلك إلى عالمها وتقنعك بواقعيتها، وقد يكون التفصيل هدفه إظهار أدب الأديب وبراعته في الوصف والتخيّل، فيكون مجرد القراءة متعة تضاف إلى متعة الأحداث.

القصة الأولى بعنوان (دفن روجر مالفن) للكاتب (ناثانييل هورثون)، وحبكتها جيدة، تحكي قصة مدارها الأقدار وكيف تلعب بشكلٍ عجيب في حيوات الناس، ثم قصة (نبيذ الأمونتيللادو)، ورغم قصرها وأسلوب كتابها الغير غارق في التفاصيل، إلا أنها مزعجة في نهايتها، وغير جذابة في حبكتها، بل يمكن القول أن لا حبكة فيها، فهو مجرد سرد لواقعة شاذة تزرع في نفس الإنسان مشهدًا بشعًا.

ثم قصة (شجرة الميلاد) لـ(تشارز ديكنز) وحبكتها بين العادي والجيد، لكنك لن تصل إلى الحدث النهائي إلا بعد أن تتعب في قراءة التفاصيل التي ليس لها داعي، تطوف في بحار مالها آخر، حتى تصل إلى النهاية التي فيها بعض التشويق والتعجب، لكن وكما قلت، يظهر الأديب براعته في سرد التفاصيل، ويخرج مكنونات نفسه عبرها، كما أن القصة لو اختُصرت لما كان وقعها على النفس كبيرًا، فالكاتب يحاول أن يسحبك إلى عالمه لتغوص فيه، حتى إذا ما علقت في أعماقه، رمى لك النهاية وقد تخمرت واشتاقت نفسك لها.

قصة (السرير الرهيب) لـ(وليم ويلكي كولنز) هي من القصص القصيرة المباشرة، وهي قصة جيدة فيها من التشويق ما فيها، ثم قصة (نفس رضية) لـ(مارك روذرفورد) والتي تُظهر جمال النفس الإنسانية وتحاول أن تغرس -في قلب القارئ- بعض القيم الإيجابية، أما قصة (أناندا: صاحب المعجزات) لـ(ريتشارد جارنت) فهي قصة فيها حظ وفير من الخيال المتعلق بالخرافات والغيب، وتدور القصة حول رسول من رسل (بوذا) الذي يسلك غير النهج المستقيم، فتصير أحداث وتقع مشاكل، وهذه القصة أيضًا فيها بعض الرسائل القيَميّة والنفسانية.

أما قصة (في نطاق من الجمد) لـ(فرنسيس بِرت هارت) فتصلح أن تكون فيلم غربٍ أمريكي (وسترن)، وهي تدور حول مجموعة من الأشخاص يتم نبذهم خارج المدينة، ثم يهطل الثلج وتبدأ المتاعب، فهل يتمكنون من النجاة؟

قصة (أربع مقابلات) لـ(هنري جيمس) هي من المميز في الكتاب، وهي وإن كانت طويلة نسبيًا إلا أنها مشوقة، وقد أعجبني التوازن في أسلوب الكاتب ما بين الإغراق في التفاصيل والقفز إلى الأحداث، والقصة هي من النوع الذي يتركك بعدها حائرًا تفكر في الأمر وتتعجب من تعرجات النفس البشرية.

قصة (سيد الباب) لـ(روبرت لويس ستيفنسون) هي قصة كلاسيكية من النوع الذي تتوقع نهايتها قبل بلوغ منتصفها، لكن الأسلوب جيد والحبكة كذلك، ثم تأتي قصة (عيد ميلاد الأميرة) لـ(أوسكار وايلد) وكنت قد سمعت عن "أوسكار" وتشوقت لأن أقرأ له، لكني أصبت بخيبة أمل، فقد مللت من القصة ولم أطق أن أكملها، ثم عدت إليها في يوم آخر وأكلمتها مرغمًا، لكن، وحين وصلت للنهاية، تغير رأي، وأدركت أن التفاصيل المملة كان لها مغزًا أراده المؤلف، وأن القصة يراد منها انتقاد وضع اجتماعي وتسريب رغبة إصلاحية.

قصة (رجل فقير) لـ(جورج جوسنج) هي من القصص الجميلة، ورسالتها جميلة أيضًا، تدور حول العفة والأنفة والكبرياء، ثم  (بيت يولاي) لـ(هنري هارلاند) التي هي قصة شاعرية تدل على رهافة حس الكاتب، هي قصة مؤثرة، وهي قصيرة، تبدأ بزيارة الرواي لذلك البيت الجميل في بساط الريف من أجل أن يستأجره، فيكتشف فيه شيء يعبر عن إنسانية الإنسان، وعن حبه ولوعته وحزنه.

القصة قبل الأخيرة كانت بعنوان (تقرير) وهي جيدة لكنّ تفاصيلها كثيرة ومملة، ثم القصة الأخيرة -التي بدأت بها مراجعتي هذه- قصة آلة الزمن، وهي قصة مشوقة، يحكي فيها المؤلف -على لسان أحد أبطالها- قصة الرحّال الذي خاض تجربة الذهاب للمستقبل البعيد، البعيد جدًا، ثم عاد وحكى بالتفصيل ما حدث في تلك الأيام القليلة، وكيف أصبحت البشرية، وفي ذلك انعكاس لبعض أفكار المؤلف التي تمس الإنسان والمجتمع، وقد حبكها -من وجهة نظري- حبكة محكمة، فكانت -رغم طولها- أفضل ما يتسلى به المرئ في بستان هذا الكتاب المتنوعة أزهاره، الوارفة ظلاله.

- الكتاب متوفر بالمجان في موقع أو تطبيق هنداوي



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مراجعة كتاب/ قصص من الحياة - علي الطنطاوي

مراجعة كتاب/ أنا قادم أيها الضوء

مراجعة كتاب/ حياة الذاكرين - عمرو خالد