مراجعة كتاب/ صديقي لا تأكل نفسك

يأخذك عبدالوهاب مطاوع إلى عالمه الخاص، عالم أفكاره وذكرياته، يصب عليك من البيان حتى تثمل من بساطة العبارة، وتمتلئ من حلاوة الفكرة، تأخذ زادك من مقالاته المنثورة في هذا الكتاب الصغير، ثم تمضي في ركب الحياة وعلى وجهك ابتسامه هادئة بعد أن رشفت من حلاوة قلمه.

صديقي لا تأكل نفسك، هذا هو عنوان الكتاب، أما الصورة فكما ترى، رجل يأكل نفسه وقد بدأ بركبته، مفارقة غريبة وصورة ذهنية شاذة، لكن العجب يزول حين تصل للمقالة المطلوبة، وتندهش حين تقرأ أن القلق الزائد والهم الغزير يؤدي إلى إفرازات وأحماض تساهم في تآكل المعدة، أي أن المعنى صحيح والنصيحة واضحة، صديقي ... لا تأكل نفسك.

مقالات عذبة، وخواطر رقيقة، ذكريات فيها فائدة ومواقف منها حكمة، أسماء لكتب وأفلام وذكريات من أحداث ووقائع، ثم كلام لطيف يخفف وعثاء الحياة، وعبرة رقيقة من قصص حقيقية مرت على الكاتب.

أفضل المقالات

من المقالات التي وقفتُ عندها مفكرًا؛ آلام زعتر، ويحكي فيها المؤلف عن صديقه الشاب الحالم ذو المشاعر الرقيقة، وكيف غيرته الأيام وحولته إلى إنسان آخر، إنسان لم يعد يجد السلام الداخلي والهدوء النفسي بعد أن أصبح يجري وراء المال والثروة، أو أنه قد ألهاه (التكاثر) عن أن يعيش الحياة الحقيقية، وبعد أن أكملتُ المقالة وقفت مع نفسي متأملاً وقلت: لهذا السبب لدينا (الدين)، الدين الذي يحمي الإنسان من نفسه ويحمي الآخرين من شره، لدينا الإيمان الذي يُبقي القلب متصلاً بخالقه، لا نعلم كيف كانت علاقة الأخ زعتر (بطل القصة) بخالقه، لكن لو كانت علاقة جيدة لما آل أمره إلى ذلك المآل، وبدون الخالق عز وجل في حياة الإنسان، وبدون الإيمان به وباليوم الآخر، فمن الصعب أن يكون الإنسان إنسانًا.

في مقالة (أناشيد الأمل) يحدثنا عن صديقه الذي لم يسمّه، والذي وصفه بأنه ممثل كبير يضحك الجمهور على خشبة المسرح، لكن الحزن كان يغلف حياته، وعندما صارحه يومًا بالحقيقة وبالهموم التي تحاصره من كل جانب، لقد حصل على الكثير من الحياة لكنها لم تترك له فرصة بأن يتمتع بمى جنى، أصبح يمتلك الشهرة والمال لكن الصحة بدأت تتسرب من بين يديه، حينها تذكرت وصف القرآن البليغ للحياة (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا) وكم من قصة سمعناها وحكاية عرفناها عن أناس لما بلغوا ذروة المنى ووصلوا بوابة المجد، إذا بالبناء يتهدم والنواقص تتلاحق، وهذا هو الدرس الأكبر الذي يعاد علينا في كل مرة، أن لا نركن للدنيا، أن لا تكون غايتنا وأكبر أحلامنا، بل نتخذها معبرًا (والآخرة خيرٌ وأبقى).

في مقالة (أحلام الشباب) أختلف مع الكاتب فيما انتهى إليه، فقد روى لنا ملخصًا لأحد الأفلام القديمة التي انطبعت في ذاكرته، وسؤال البطل في نهاية الفلم (هل يستحق ما حققناه من نجاح كل ما تكبدناه؟) وأنا وإن كنت أتفق مع أهمية الكفاح والسعي لبلوغ الأهداف، إلا أن هنالك ما هو أهم، فالأسرة مثلا -والتي ضحى بها البطل من أجل النجاح- هي أهم من النجاح المادي، والعيش بالقيم والأخلاق هو أهم من أي نجاح، بل إن النجاح هو أن تعيش حياة طيبة بأخلاق عالية حتى لو بقيت إنسانًا عاديًا، وليست قصة (زعتر) عنا ببعيد.

أما في مقالة (احترس من الحوت) فهو يواسي المتعبين، يوجه كلامه لمن كثرت همومه ويعطيهم بعض الأقراص المهدئة والحيل النفسية المخففة، ويقرر حقيقة أن لا إنسان تخلو حياته من متاعب، وحين سؤل أحدهم عن ماذا يفعل، قال (أعابث المتاعب وتعابثني، وأمضي إلى الأمام بوجه مبتسم).

وقد أبدع في مقالة (صديقي من أنت) فأنت هو جميع التجارب التي مرت بك، جميع الكتب التي قرأتها والمواقف التي عشتها، أنت تتغير كل يوم، قل لي ماذا تقرأ وأين تعيش ومن تصاحب و.... أقل لك من أنت.

يذكر لنا بعض الكتب التي عادة ما يعود إليها في الصيف، وذلك في مقالة (العقل في أجازه)، منها رواية سَرَد لنا تلخيصًا لها، هي رواية (مليم الأكبر) للكاتب (عادل كامل)، وقد أثنى على مذكرات شارلي شابلن، وتذكر قصة المسخ لكافكا، ثم علق على سبب تذكره لهذه الكتب وتلك الشخصيات بتعليق طريف آخر الكتاب.

في مقالة بعنوان (في الحديقة .. نسيت نفسي) يذكر أنه التقى سفير اليمن الشمالية لدى جيبوتي آنذاك، كان في حفل عقده السفير المصري ودعى فيه عدة شخصيات، لكنه صادق السفير اليمني لما كان يحب ويحفظ من الشعر، فقد انعزلوا جانبًا في الحديقة ثم نسي عبدالوهاب نفسه مع السفير اليمني.

في مقالة (حرب النظرات) يحوّل المؤلف موقفًا قديمًا إلى قطعة أدبية منسوجة بإحكام، فالنظرات تلك هي التي رماه بها أحد المسؤلين من ذوي السلطة والهيبة، وقد زاره الكاتب آنذاك لعمل تحقيق صحفي عن الإهمال في مستشفى قصر العيني، لكن نظرات المسؤول بقيت عالقة في ذاكرته، ثم حولها إلى عبارات نارية وأودعها في مقالة في هذا الكتاب.

مقالة جميلة أخرى هي (ارفعوا القبعات) تحدث فيها عن شخصية (جران) في رواية الطاعون للأديب الفرنسي (البير كامي)، ثم تحدث عن أمثال هذه الشخصية في الواقع، وهم أولئك الذين ينتظرون قفزة العمر ولحظة السعد وجائزة اليانصيب، الذين يحلمون ويعيشون داخل أحلامهم لا يخرجون، في حين أن النجاح طريق طويل يبدأ ببدايات متواضعة.

وأخيرًا مقالة (عصير حياتهم) والتي يذكر فيها عنوان كتاب قيم، هو (علمتني الحياة)، والذي سجل فيه عدد  من أهل الفكر والأدب في مصر عصارة تجربتهم في الحياة، وقد ذكر المؤلف هنا بعض النماذج مما قيل في ذلك الكتاب.




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مراجعة كتاب/ قصص من الحياة - علي الطنطاوي

مراجعة كتاب/ أنا قادم أيها الضوء

مراجعة كتاب/ حياة الذاكرين - عمرو خالد